قطرة من بحر الدموع
من" بحر الدموع" لابن الجوزي
قال ابن المبارك: قدمتُ مكة، فإذا الناس قد قحطوا من المطر، وهم يستسقون في المسجد الحرام،
وكنتُ في الناس من باب بني شيبة،
إذ أقبل غلام أسود عليه قطعتا خيش، قد ائتزر بإحداهما، وألقى الأخرى على عاتقيه،
فصار في موضع خفي إلى جانبي،
فسمعته يقول: إلهي، كثرت الذنوب ومساوئ العيوب، وقد منعتنا غيث السماوات لتؤدب الخليقة بذلك، فأسألك يا حليم، يا من لا يعرف عباده منه إلا الجميل، أسقهم الساعة الساعة.
قال ابن المبارك: فلم يزل يقول: أسقهم الساعة الساعة، حتى انسدّ الجو بالغمام، وأقبلت قطرات الركام تهطل كأفواه القرب، وجلس مكانه يسبّح الله تعالى،
فأخذتُ في البكاء، حتى قام, فاتبعته حتى عرفتُ موضعه.
فجئت إلى الفضيل بن عيّاض، فقال لي: ما لي أراك كئيبا؟
فقلت له: سبقنا إليه غيرنا، فولاه دوننا.
قال: وما ذلك؟
فقصصتُ عليه القصة,
فسقط في الأرض، وقال: ويحك ابن المبارك، خذني إليه،
فقلت: قد ضاق الوقت، سأبحث عن شأنه.
فلما كان من الغد، صليتُ الغداة، وخرجتُ أريد الموضع،
فإذا بشيخ على باب، وقد بسط له وهو جالس، فلما رآني عرفني،
وقال: مرحبا بك يا أبا عبد الرحمن، ما حاجتك؟
فقلت: احتجتُ إلى غلام،
فقال: نعم عندي عدّة، اختر أيهم شئت، فما زال يخرج واحدا بعد واحد، حتى أخرج إليّ الغلام،
فلما أبصرته بدرت عيناي بالدموع،
فقال: هذا؟!
فقلت: نعم،
فقال: ليس لي إلى بيعه سبيل.
فقلت: ولم؟!.
قال: قد تبرّكت بموضعه في هذه الدار،
فقلتُ له: ومن أين طعامه؟
فقال: يكسب من فتل الشريط, فهو قوته.
وأخبرني الغلمان عنه أنه لا ينام في الليل الطويل ولا يختلط بأحد منهم، مهتم بنفسه، وقد أحبه قلبي.
فقلتُ له: انصرف إلى الفضيل بن عياض وسفيان الثوري بغير قضاء حاجة.
ثم رجعتُ إليه، وسألتُ فيه بإلحاح،
فقال: إن ممشاك عندي كبير، خذه بما شئت.
قال: فاشتريته، وسرتُ معه نحو دار الفضيل، فمشيت ساعة
فقال لي: يا مولاي.
فقلت له: لبيك.
فقال: لا تقل لبيك، فإن العبد أولى بأن يلبي المولى.
قلت: وما حاجتك يا حبيبي؟.
قال: أنا ضعيف البدن، لا أطيق الخدمة، وقد كان لك في غيري سعة، قد أخرج لك من هو أجلد مني وأثبت.
فقلت له: لا يراني الله تعالى أستخدمك، ولا كان اشترائي لك إلا أن أنزلك منزلة الأولاد، ولأزوّجك، وأخدمك أنا بنفسي.
قال: فبكى، فقلتُ له: وما يبكيك؟.
قال لي: أنت لم تفعل هذا إلا وقد رأيت بعض من صلاتي بالله تعالى، وإلا فلم أخذتني من دون أولئك الغلمان؟.
فقلتُ له: ليس بك حاجة إلا هذا.
فقال لي: سألتك بالله أن تخبرني.
فقلتُ له: بإجابة دعوتك.
فقال لي: إني أحسبك إن شاء الله رجلا صالحا، إن لله عز وجل خيرة من خلقه، لا يكشف شأنهم إلا لمن أحب من عباده، ولا يظهر عليهم إلا من ارتضى.
ثم قال لي: ترى أن تقف عليّ قليلا، فانه قد بقي عليّ ركعات من البارحة.
قلتُ: هذا منزل الفضيل.
قال: لا , هاهنا أحبّ إلي. إن أمر الله تعالى لا يؤخر،
فدخل المسجد،
فما زال يصلي حتى أتى على ما أراد، فالتفت إليّ
وقال: يا أبا عبد الرحمن، هل لك من حاجة؟.
قلت: ولمَ ؟!
قال: لأني أريد الانصراف.
قلتُ: إلى أين؟.
قال: إلى الآخرة.
قلت: لا تفعل, دعني أنتفع بك.
فقال لي: إنما كانت تطيب الحياة حيث كانت المعاملة بيني وبين الله تعالى، فأما إذا اطلعت عليها أنت، سيطّلع عليها غيرك، فلا حاجة لي في ذلك،
ثم خرّ على وجهه،
وجعل يقول: إلهي, اقبضني الساعة الساعة، فدنوتُ منه، فإذا هو قد مات. فوالله ما ذكرته قط إلا طال حزني، وصغرت الدنيا في عيني، وحقرت عملي.
http://forum.amrkhaled.net/showpost.php?p=1640573&postcount=2236
No comments:
Post a Comment